العشاء الرسمي الأخير للحسن الثاني.
قبل يومين على إعلان وفاته، كان الملك الراحل يطوف بأرجاء قصر الرباط، كان منهكا ويبدو على ملامحه التعب، فأراد تغيير « المنزلة »، كان يتبرم من المكوث في قصر الرباط، ويغادره بين الفينة والأخرى لقضاء أوقاته في قصر الصخيرات القريب، رغم ما خلفه ذلك الفضاء من ذكرى أليمة في نفسه، حيث فقد أقرب معاونيه في انقلاب 1971 الذي كان قصر الصخيرات مسرحا له، في يوم الأربعاء 21 يوليوز 1999 أخبر بوجود الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في إقامته بفندق هيلتون بالرباط، فأمر بتنظيم مأدبة عشاء على شرفه في القصر، حدد لائحة المدعوين إليه من رجالات الدولة،
نظم العشاء الأخير وجلس الملك الحسن الثاني إلى طاولة الوزير الأول المعارض عبد الرحمان اليوسفي، ذكاء الملك الخاص منحه إشارة استقطاب المعارضة إلى الحكم كي يضمن انتقالا سلسا للسلطة، فقد ظل طيلة عهده يرفض توليهم لأمور الدولة، ومنحوا حقائب وزارية قليلة الأهمية وخلقت لهم عراقيل كثيرة عند ممارسة مهامهم، لكن الزمن والوضع تغير الآن فالملك الراحل كان يعلم بمرضه، واستعد للرحيل بحزم وعزيمة ورباطة جأش، وقد ثبت إلى آخر رمق وظل بهامة شامخة ولم يستسلم لهون الشيخوخة وسريان المرض، تودد في ذلك العشاء لليوسفي وأعد له حميته الخاصة، بل شاركه طعامه أيضا،
ولج الملك الحسن الثاني ساعات قبل دخوله إلى مستشفى ابن سينا قصر الرباط، وجد أهله وخدامه قلقين على صحته، فقد راج بينهم أنه سيدخل مصحة القصر على وجه الاستعجال، كانوا يحدقون في وجهه الشاحب لكنه ظل واقفا على أمور القصر كما كان من قبل، ممحصا في التفاصيل الدقيقة، وجد عمال الرصاصة منهمكين في عملهم، حيث كانوا يقومون بورش كبير قرب بيت الضيافة، فأمر بتوقيف الأشغال وتغطية أرضية الحديقة التي شهدت عمليات الحفر، وجلب العمال مسارح خشبية رُصفت فوقها الزرابي، لأن دخوله إلى المستشفى سيكون دافعا أمام وفود كثيرة للقدوم إلى القصر قصد الاطمئنان على صحته، ظل وفيا للجزئيات ثابتا لا تهزمه فرضية موته في المستشفى خاصة أن تقرير حالته الصحية كانت تبرز أنه دخل مرحلة حرجة، فأعد لكل شيء، أوصى خدامه بخدمة ضيوفه، وبأن يعدوا لهم الحلوى والمشروبات، ولا يتركوا أحدا منهم يدخل لعيادته في مصحة القصر، ثم توجه صوب محلته أي منزله ومكان نومه، وطاف في أرجائه وهو يلقي نظرة مودع، في سن السبعين وبمعاناته مع المرض، وفي ظل أزمة سياسية واقتصادية خانقة دفعته إلى الإعلان في إحدى خطبه الأخيرة أن « الخنشة تقبات » بما يعطي دلالة واضحة على وضعية البلاد، والطعنات التي تلقاها من هشام المنظري أحد الأشخاص الذين أحسن إليهم وقربهم إلى صفوته، وغيرها من المشاكل التي تحملها بعزم الملوك دفعة واحدة من غير شكوى، فقد كان الراحل شديد التكتم لا يتقاسم جزئياته مع الآخرين، ويقضي أغلب أوقاته منصتا إلى نفسه، في خلوة صوفية، فالملك تغير كثيرا بعد فشل انقلاب الصخيرات وبعده بسنة انقلاب الطائرة الملكية، ولم يعد يشاطر أحدا مسائله الشخصية بعد خيانة أوفقير له، هذا الأخير كان يحادث الملك على الهاتف في كل الأوقات ويستطيع أن يوقظه من النوم ليمازحه في أمور خاصة، لكن الضربات التي تلقاها الملك ونجا منها بأعجوبة قوت عزيمته، لقد أصر على أن لا يترك أي شيء للصدفة وهو يغادر إلى مصحة القصر، وجد طبيبه الخاص في انتظاره كشف عليه وطلب منه التوجه إلى مستشفى ابن سينا الذي يتوفر على تجهيزات التشخيص وغرفة للعمليات المفتوحة وطاقم طبي محترف ومتعدد التخصصات خاصة قسم الأمراض القلبية، فأُعلنت حالة الطوارئ في المستشفى الجامعي، أغلقت جميع منافذه، ومنعت الأطقم الطبية من المغادرة، وانتشر حراس الملك في جميع الأرجاء، لم يكن العاملون في المستشفى يدركون سر هذا التطويق الأمني إلا بعد أن حل الملك وتم نقله على وجه السرعة إلى جناح أمراض القلب، هناك ستجرى له الإسعافات الاستعجالية، حيث أخبر بضرورة إجراء عملية ضرورية، لكنه تردد لحظة طالبا رؤية ولي العهد سيدي محمد لتبليغه الوصية الشفوية الهامة جريا على عادة السلاطين العلويين، فما الذي دار بينهما في لحظة الوداع المؤثرة؟
تعليقات
إرسال تعليق