Bitcoin roulette

القائمة الرئيسية

الصفحات

رَوْحَانْ امْبَيْ: الثوابت الدينية المشتركة عامل وحدة بين المغرب والدول الإفريقية


رَوْحَانْ امْبَيْ: الثوابت الدينية المشتركة عامل وحدة بين المغرب والدول الإفريقية


رَوْحَانْ امْبَيْ: الثوابت الدينية المشتركة عامل وحدة بين المغرب والدول الإفريقية

الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية ليومه الثلاثاء 06 رمضان 1439(22 ماي 2018) بالقصر الملكي 


ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، يومه الثلاثاء 06 رمضان 1439(22 ماي 2018) بالقصر الملكي بالرباط، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.


وقد ألقى الدرس بين يدي أمير المؤمنين، البروفيسور روحان امبي أستاذ كرسي بجامعة "أنتا ديوب" بدكار ورئيس "مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة - فرع السنغال"، متناولا بالدرس والتحليل موضوع : "الثوابت الدينية المشتركة، عامل وحدة بين المغرب والدول الإفريقية"، انطلاقا من الحديث النبوي الشريف عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة".

 نص الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية
الحمد لله وحده

والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه

مولاي أمير المؤمنين

أتشرف بتناول الكلام في مجلس جنابكم الشريف، في موضوع عظيم الأهمية، بالنسبة للمملكة المغربية وبالنسبة لعدد من البلدان الإفريقية، هذه البلدان التي تربطها مع المغرب روابط عريقة قامت على امتداد القرون على أساس المشترك الديني الذي كان لُحمة العلائق في الماضـي، والذي ما يزال يحتفظ بكل طاقاته لتقوية أواصر الحاضر وآفاق المستقبل، وأتحدث هنا عن العلائق في المستوى العميق: أي المستوى الشعبـي الوفي للحمولة الروحية والفكرية، التي لا تتأثر في هذا المستوى الشعبـي بالتغيرات الظرفية ولا بالاختيارات الشخصية الخاضعة للحسابات السياسية التي قد تقع بسبب الجهل بهذا المشترك أو نُكْرانه من شريحةٍ بهذه البلدان، أو تستـهدفه أطماع المزاحمة أو المنافسة من خارجها، فهو مشترك لا يتزعزع لأنه مبنـي على الصدق والخير والمعروف مصداقا لقوله تعالى: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة...﴾.

وإن نهضتكم المباركة، يا أمير المؤمنين، في تنمية العلاقات مع الدول الإفريقية على أساس النصح والخبرة وحماية الهوية والنفع المشترك، لابد أن تواكبـها حركةُ توعيةٍ وتبصيرٍ للمغاربة وإخوانهم من بلدان إفريقيا الأخرى بهذه الأرضية الصلبة التي مهدها الأجداد في موضوع الثوابت المشتركة في الجانب الديني، لاسيما وأن الدين يستـهدفه اليوم عدوه وهو "التطرف"، وفي خارج إفريقيا من ينظر إلى شعوبها لُقمة سائغة يمكن أن يعبث في هويتها مع ما لهذا العبث من العواقب المدمرة، فلقد كانت العلائق الروحية بين المغرب وشعوب إفريقيا على البر والتقوى بكل مظاهر الإصلاح، ولم يكن يتـهدد هوية تلك الشعوب خطر له علاقة بالاختيارات العقدية والمذهبية والسلوكية، أما اليوم فقد ذهب الورع من بعض الناس فخرجوا عما كان عليه أسلافهم وأسلافنا من احترام التعدد والاختلاف داخل الاجتـهادات في الجوانب المذكورة، بل إن هذا التفريط في أخلاق التعددِ والاختلافِ في الاجتـهاد التي كان السلف يحافظ عليـها قد جاء بِشَرٍّ مُسْتَطِيرٍ يعاني منه الجميع: وهو فتنة التطرف الذي يهتك الحرمات ويسفك الدماء، وكتاب الله العزيز يحذرنا بقوله تعالى: ﴿واتقوا فتنة لا تُصِيبَنَّ الذين ظــلموا منكم خاصة﴾. فالمأمول منكم يا أمير المؤمنين أن تواصلوا ما أنتم عليه من تعزيز وشائج النصيحة في الدين والمنافع في الدنيا مع هذه البلدان الإفريقية، وأن تتعاونوا معها على حماية أمنـها الروحي وهويتـها الثقافية داخل الثوابت المشتركة.

وحيث إن كثيرا من الناس في بلدان إفريقيا، بل وربما حتى في المغرب، يسمعون بهذه الثوابت ولا يعرفون مضمونَها ولا أهميتـَها بالنسبة للحياة الدينية ولا خطورتَها في الأمن الروحي فقد اقترحنا أن نُذَكِّرَ بها مصداقا لقوله تعالى: ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾. وقد يتساءل بعض الناس ما هو المقصود بمصطلح الثوابت: فالمقصود هو الاختيارات الدينية في العقيدة والمذهب والسلوك الروحي التي اختارها المغاربة ومعهم عدد من أهالي البلدان الإفريقية لاسيما في غرب القارة، اختيارا حُرّاً من بين اجتـهادات الأئمة الأوائل الذين استنبطوا أحكام الدين، علما بأن هذه الاجتـهادات كلها سُنية صحيحة ولا تختلف إلا في جزئيات لها أهميتـها من حيث الانسجامُ في المعتقد أو في العبادات والمعاملات، وبعبارة أخرى فهي مرجعيةٌ أَمْنِيَةٌ إن صح التعبير لا يجوز لأحد من الداخل أو الخارج أن يروم تغييرها، وعلى هذه الاستمرارية تُسمَّى "الثوابت"، وليست هذه الثوابت وليدة اليوم، فمنذ قرون تحدث عنـها الشيخ المغربي عبد الواحد بن عاشر فقال:

في عقد الأشعري وفقه مالكْ   وفي طريقة الجنيد السالكْ

وتتجلى من تأصيل الثوابت الدينية المشتركة بين المملكة المغربية والبلاد الإفريقية رباعية متمثلة في:

إمارة المؤمنين
والمذهب المالكي
والعقيدة الأشعرية
والتصوف.
الثابت الأول: إمارة المؤمنين
إن لكل شعب من شعوب إفريقيا وطنُه ونظامُه السياسـي، ولهذا النظام مشروعيته العصرية بالاختيار والانتخاب، ولكن المسلمين في كل بلد من هذه البلدان يعرفون رمزيةَ إمارة المؤمنين في تاريخ الإسلام، وتاريخَها الفعليَّ العريقَ في المملكة المغربية، فهي مشترك رمزي لا يهم الحياة السياسية للبلدان ولكن له أهميةٌ روحيةٌ عبَّر الأفارقةُ عنها باستمرار، وتجلت في بعض مواقف الزعماء الدينيين الأفارقة الذين حَرِصوا على تقوية الصلات مع أجدادكم فكانوا يَفِدُون عليـهم، يا مولاي، بل إن بعضهم شد الرحال لزيارة جدكم محمد الخامس في منفاه، وما تزال تتجلى هذه الرمزية في النظرة الروحية التبركية التي ينظرون إليكم بها، وفي حفاوة الاستقبال التي يخصونكم بها، ولا يُنْكِرُ هذا الأمرَ إلا جاهل أو جاحد. 

أما تاريخ إمارة المؤمنين في المغرب فالأفارقة ينظرون إليه بتعظيم وإجلال لأحقيته ومشروعيته بوقائعه ومعالمه السُّنية.

فقد قدم المولى إدريس إلى المغرب، وبيده وصية أخيه محمد بن عبد الله النفس الزكية له بالخلافة التي كان قد بويع بها بيعة شرعية من أهل الحل والعقد بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل بيعة أبي جعفر المنصور العباسـي، وعلى أساس هذه الشرعية بايع أهل المغرب المولى إدريس، فهو أول من حَمَلَ لَقَبَ أميرِ المؤمنين في هذا الغرب الإسلامي، وأسس أول دولة إسلامية مستقلة عن المشرق. وكان الإمامان مالكُ بن أنس وأبو حنيفة بالمشرق، يُرَجِّحَانِ إمامتَه على بني العباس، ويريان أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر المنصور لانعقاد بيعة محمد بن عبد الله النفس الزكية قبله.

وهكذا تكون إمارة المؤمنين دخلت المغرب وهي مستوفية لكل شروط الصحة التي أساسها البيعة الشرعية المزكاة من طرف إمامين عظيمين من أئمة المسلمين: مالك بن أنس وأبي حنيفة، فتأسست بذلك أول إمارة للمؤمنين بالربوع المغربية.

وعندما بدأ انفتاح المغرب الإسلامي في العقد السادس من القرن الهجري الأول كانت الأزمة قد استحكمت بظهور الفرق واستمرار المعارضة للأُمويين ثم للعباسيين ولاسيما من أنصار آل البيت. وبينما كان هؤلاء يعانون من اضطهاد الدولتين المذكورتين بين عام 40 للهجرة، تاريخ تولي معاوية، وعام 169  للهجرة، تاريخ مقتل محمد بن عبد الله النفس الزكية في وقعة فَخٍّ، قرب مكة المكرمة، كان قد مضـى قرن من الزمن على سوء تدبيـر عدد من عمال الأُمويين ثم العباسيين على المغرب. وفي هذا السياق من الظلم المشترك لجأ إدريس بن عبد الله إلى المغرب، وقد نجا من القتل في موقعة فخ، فكان أول أمير للمؤمنين بويع خارج نطاق الحرب والانقلاب بعد الخلفاء الراشدين.

ولا يخفى أن النظام السياسـي يكون مشروعا بصلاحه وبما يوفره من الأمن والاستقرار لممارسة شئون الدنيا التي بها يتـهيأ الناس لحسن المعاد في الآخرة، ذلك لأن الإسلام خطاب الله تعالى إلى كافة عباده فيما يهمهم من أمور دنياهم ودينـهم، وقد كان لزاما أن يشتمل على كل ما يُنَظِّمُ شؤونَهم في دنياهم التي فيـها معاشُهم، وفي آخرتهم التي إليـها معادُهم، لذا كان أول ما شغل بال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحط رحاله بالمدينة، النظرُ في وضع النواة الأولى لمجتمع يسوده الأمن والاستقرار، والتعاونُ بين مكوناته في جلب المصالح ودرء المفاسد، مجتمعٍ تسهر على تدبيـره دولة حاكمة وحكيمة، حتى تجري حياة الناس على نظام واستقامة.

الثابت الثاني: المذهب المالكي
من المذاهب الفقهية المذهب المالكي، وهو الذي ينسب إلى إمام دار الهجرة مالك بن أنس والمنتشر في أقطار الغرب الإسلامي وأكثر بلدان إفريقيا.

ومعلوم أن أول تجسيد لوحدة الأمة الإسلامية في إطار كيان سياسـي قائم على البيعة والشورى، كان بالمدينة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو النموذج الذي ظل مسلمو إفريقيا يرونه المثل الأعلى الذي يجب الاقتداء به والسير على سَنَنِهِ.

وعلى غرار سيرة الناس في المدينة قَلَّتِ البدعُ في معظم بلاد إفريقيا، في ظل التمسك بمذهب إمام دار الهجرة، ومما يعد من فضل المغرب والأندلس، أنه لم يذكر على منابرهما أحد من السلف إلا بخير، حتى قرن أبو الوليد الطرطوشـي هذا الأَمْرَ بالحديث الشريف الذي ورد فيه فضل أهل الغرب فرد ذلك إلى ما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة، وطهارتِهم من البدع والإحداث في الدين، ولزومِهم الاقتفاءَ لأثر السلف الصالح.

وهذه الوحدة المذهبية من القواسم المشتركة بين هذه البلدان، ومما يؤهلها لتحقيق وحدة جزئية عظيمة للأمة الإسلامية، في هذا الجَناح الغربي من العالم الإسلامي وفي كل إفريقيا.

أما عن خصائص المذهب المالكي فمن أهمها:

الوسطية والاعتدال؛
التطور والتجديد؛
الواقعية: وتعني الاهتمام بما هو واقع وجرى عليه الناس في حياتهم؛
المرونة: وتتجلى بوضوح في قاعدة مراعاة الخلاف التي تَرجِعُ أهميتُـها أساسا إلى محاولة التقريب بين المذاهب.
كان الإمام مالك ما يزال على قيد الحياة عند قيام الدولة الإدريسية بالمغرب، ويبدو أن إدريس بن عبد الله الكامل، الذي كان يحفظ موطأ مالك، هو أول من دعا المغاربة إلى مذهب مالك وقراءة الموطأ، قائلا: على ما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته: "نحن أحق باتباع مذهب مالك وقراءة كتابه" وهذا الاقتناع هو ما رسخه من بعده خلفه ووارث سره ابنه إدريس بن إدريس.

وقد سجل الـمُـرَّاكُشِيُّ في المعجِب ما شاهده عيانا على عهد يعقوب المنصور من التخوف من فروع الفقه ومحاولة القضاء عليـها، وإنما كان ذلك احتياطا لحماية ضمير الناس في وقت لم يكونوا فيه مؤطرين بالعدد الكافي من الفقهاء، ولكن فقه الفروع عاد مع الاطمئنان لكونه ثروةً من الاجتهادات وليس تشويشا على العبادات، وكذلك ينبغي أن يفهم الناس اليوم في بلدان إفريقيا أن المقصود بمذهب فقهي معين أن يحمي الناس من التشويش ولاسيما في داخل المساجد، وعلى بعض إخواننا في المشرق أن يتقوا الله فينا باحترام اختيارنا المذهبـي، لأن عامة الناس يتأثرون بالمخالفة الجزئية ويحملون الخلاف الصغير وكأنه فَرْقٌ بين الحق والباطل، وليس الأمر كذلك. 

الثابت الثالث: العقيدة الأشعرية
لقد كان المسلمون في عهد الرسالة وبداية عهد الخلفاء الراشدين يُشَكِّـُلونَ وحدة حقيقية، عقيدة وفكرا وجماعة، وإذا ظهر خلاف ما في الرأي، فسرعان ما ينتهي إلى وفاق، بسبب الاحتكام المباشر إلى الكتاب والسنة.

أما في أواخر عصر الخلفاء الراشدين، فقد نشأت الفرق الإسلامية، وتبلورت أفكارها في العصور اللاحقة وتعددت.

ومن المواضيع التي احتاج الناس إلى أن يفهموها ما يتعلق بما ورد في القرآن والحديث بخصوص ذات الله تعالى وصفاته، وما يتعلق بفهم شروط الإيمان، فمال البعض إلى الأخذ بحرفية ضيقة للنص، وتوسع آخرون في التأويل توسعا قد يصل إلى تصورات منكرة، وهذا المبحث هو مبحث العقيدة. وكما تنوعت مذاهب الفقه تنوعت العقائد، ومن بين فرق العقائد ظهر الأشاعرة نسبةً إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى عام 324 للهجرة، وذلك للتصدي على الخصوص لتأويلات الباطنية والرافضة، فكان له جهاده المشكور.

ولكي يتبين لغير المتخصصين ما هي أهمية اختيار العقيدة الأشعرية ولاسيما في وقتنا هذا نقول: إن الأشاعرة يرون أن كل من نطق بشهادة أن لا إله إلا الله فهو مؤمن، ويُتْرَكُ أمره في غير ذلك بينه وبين الله تعالى، بمعنى أنه لا يجوز تكفيره قطعا، والمخالفون للعقيدة الأشعرية هم الذين يُكَفِّرُونَ الناس اليوم ويقتلونهم بتـُهم يجعلونها قادحة في الإيمان، وأول من يتعرض لعدوان هؤلاء هم المسلمون، بالإضافة إلى ما ينتج عن أفعالهم الشنيعة من إضرار فادح بسمعة هذا الدين.

فهذه هي الثوابت والخصوصيات الدينية التي ارتضاها المغاربة وأجمعوا عليـها منذ قرون خلت، وقد أدرك الفقهاء المالكية أهمية ربط المذهب الفقهي المالكي بالجانب العقدي تحصينا لعقيدة الناس فصدروا بعض كتبـهم بمباحث العقيدة، كرسالة ابن أبي زيد القيرواني الملقب بمالك الصغير، ومقدمةِ منظومة بن عاشر، وكتابِ الجامع من الذخيرة لشهاب الدين القرافي.

إن الحديث عن المذهب الأشعري هو حديث عن مدرسة سنية أصيلة، أسهمت بحظ وافر في تحصين المعتقد الإسلامي على طريقة أهل السنة والجماعة الذي دعا إليه الإسلام وحث عليه. وهو الذي كان ولا يزال مذهبا رسميا لكبار الأئمة، مالك بن أنس وأبي حنيفة النعمان والشافعي وأحمد بن حنبل... وغيرهم....

إن الإمام الأشعري رحمه الله لم يبدع رأيا، ولم ينشـئ مذهبا، وإنما هو مقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عَقَدَ على طريقةِ السلفِ نِطَاقاً، وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المقتدي به في ذلك السالكُ سبيله في الدلائل، يسمى أشعريا... وقد ذكر شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أن عقيدته أجمع عليـها الشافعية والمالكية والحنفية. وتيسر لهذا المذهب الانتشار والانتصار بفضل المنهج الوسطي الذي سلكه.

لقد انتشر المذهب الأشعري في مختلف أقطار العالم الإسلامي، فانتشر في العراق، ومنه إلى الشام، وفي مصر على يد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، وفي المغرب على يد أبي عبد الله محمد بن تومرت.

وقد اختار المغاربة الأشعرية باعتبارها مذهبا متكاملا يمتلك قدرة فائقة على التأسيس والإقناع والمناقشة، ولما لمسوه فيه أيضا من حفاظ على جوهر العقيدة، وحرص على درء التشبيه والتعطيل، ولما فيه من وسطية تتجاوز القراءة الحرفية للنصوص، كما تتجاوز التأويل البعيد الذي يصادر دلالة النص من غير داع. 

لقد انتشرت العقيدة الأشعرية بوصفها عقيدة سنية تمتاز بالوسطية والاعتدال في العالم الإسلامي، حيث تلقتها الأمة بقبول حسن، وامتزجت بعلم السلوك الإسلامي بعد تـأثر صاحب المذهب بالإمام أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبـي (ت 243هـ) أحد أعلام الصوفية وأعلم العارفين في زمانه؛ وأستاذ السائرين الذي تتلمذ على يديه الإمام أبو القاسم الجنيد بن محمد.

الثابت الرابع: التصوف ‎
يشكل التصوف وحركته جزءا لا يتجزأ من تاريخ المغرب بل هو مكون أساس وجوهر من مكونات هوية الشخصية المغربية عبر مسارها التاريخي كما أوضح ذلك الدرس التاريخي والفكري والحضاري في المغرب.

مُؤدى هذه الحقيقة قوةُ الحضور الصوفي في الزمان والمكان المغربيين وإشاعته كمّاً ونوعاً، منذ إرهاصاته الأولى إبان الفتح الإسلامي مع عقبة بنِ نافع الفهري ثم موسـى بنِ نصير، فالمولى إدريس بنِ عبد الله، إلى اليوم في زمن أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، حيث كان التصوف وما زال أساسا حَيَاتِيًّا في المجتمع المغربي وفي سلوك أفراده، مُشَكِّلاً بذلك ثابتا من ثوابت الأمة، ومتوافقا وغيرَه من الثوابت مع أصلها جميعا: كتابِ الله وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم.

إن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أساس السلوك الصوفي عند المغاربة، صوفيةَ أخلاقٍ ورقائقَ كانوا أمْ صوفيةَ حقائقَ، وقد وجدوا ضالتـهم في السنة العملية وما أينعته من أخلاق وأذواق، كما التزموا نصوص الحديث النبوي واستندوا إليه استشهادا وتمثلا وفعلا.

جاء في الحديث القدسي: "إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي، وأُذْكَرُ بذِكرهم".

يجتمع في ما سقناه ارتباطا بالأصل النبوي السنـي للتصوف في المغرب القول النبوي مع أقوال بعض أقطاب التصوف في وطننا، وهو اجتماعٌ مؤشرٌ على حقيقة السند الصوفي السُّنـي في المغرب، وتزداد هذه الحقيقة عمقا حين نستحضر ذلك الحديث النبوي الذي يسمو بمقام أهل الغرب من أمة الإسلام الذين هم أهل المغرب وفق ما يراه بعض المعلقين؛ فمن طريق سعد بن أبي وقاص روى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة».

ويقول عبد الرحمن بن الجوزي: «رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سِيَرِ السلف الصالحين».

ويقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: «إن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى، خاصة أن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم مقتبسةٌ من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به».

يتضح، إذن، أن الالتزام بالأصول الشرعية؛ الكتابِ والسنةِ، هو أساس الطرق الصوفية، وهو المعتمد في المغرب فيصلا بين الصواب والخطأ، ولذلك خاطب أبو الحسن الشاذلي مختلف مريديه قائلا: «إذا عارض كشفك الكتاب والسنة، فتمسك بالكتاب والسنة، ودع الكشف، وقُلْ لنفسك إن الله قد ضمن لي العصمةَ في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة».

أما دور الصوفية المغاربةِ طُرُقاً وأَعْلَاماً في نشر الإسلام، فمساءلة تاريخ إفريقيا جنوب الصحراء تفي بالمطـلوب، وتُفْضِي إلى استخلاص ما فعله التجانيون والكُنتيون خاصة؛ والفاضليون والـمَعَيْنِيُّونَ في الجهة الغربية جنوب الصحراء حتى قامت دولة عمر الفوتي بهويتها الإسلامية الصوفية التجانية، ثم ما أنجزته المدرسة الأحمدية الإدريسية وما تفرع عنها من طرق في بلاد السودان الشرقي خدمة للإسلام والمسلمين.

لكن الاتجاه الذي ساد، وبقي ممثلا لطريقة الجنيد هو: تصوف الإرشاد والعمل والسلوك ويسمى أيضا: التصوف العملي. وإن أشهر الطرق التي تنتسب إليه على الإطلاق، والتي تعد مدارس مستقلة قائمة بذاتها لها أعلامها ومعالمها، وتمثل في نفس الأمر طريق الإمام الجنيد هي:

المدرسة القادرية
المدرسة الشاذلية
المدرسة التجانية
وتنفرد مدرسة الطريقة القادرية بكونها أول مدرسة صوفية ظهرت في الإسلام بينما تتميز المدرسة الشاذلية بانتشارها الواسع وبكونها الطريقة التي تفرعت عنها عدة طرق في المغرب والمشرق، مثل الجزولية والزروقية والوفائية والناصرية وغيرها.

أما المدرسة التجانية فهي مدرسة ذات صيت عالمي، ولها امتداد قوي في إفريقيا وأتباع هذه الطريقة يسمون بالتجانيين.

المدارس الصوفية بإفريقيا معالم وأعلام

إن الاختيار الجنيدي للمغاربة قد امتد إفريقيا إِنْ عَلَى مستوى المدارسة أو الممارسة، وهو ما تزكيه كتب التاريخ والتراجم والفهارس.

ومما هو معلوم أن حلقات التواصل الصوفي انتظمت بين المغرب وإفريقيا في وقت مبكر، وتنص المصادر على أن بلاد شنقيط (موريتانيا) شكلت جسرا لعبور المدارس الصوفية المغربية من المغرب إلى إفريقيا مرورا بالسنغال: القادرية، البكائية، الفاضلية، الشاذلية، التجانية، وهي أحدث الطرق السائدة في بلاد شنقيط نشأةً وأوسعُها انتشارا في إفريقيا الغربية.

لقد عمل شيوخ الصلاح المغاربة على ترسيخ قيم التسامح والتعايش ورفع   التحديات والأخطار التي تهدد القارة السمراء. كما ساهموا في تقوية الروابط الروحية والأخلاقية في أفق إشاعة قيم الإسلام المعتدل. وحَرِصَ المغربُ عَبْرَ التاريخ على مواصلة رعاية المنتسبين إلى الطرق الصوفية بهذه البقاع والعناية بهم وذلك من خلال العمل على الحفاظ والارتقاء بالرابطة الروحية التي تجمع سكان البلدان الإفريقية  بمؤسسة إمارة المؤمنين وحامي الملة والدين. هذا الإرث التربوي الروحي الذي ساهم في نشر وترسيخ قيم السلم والتسامح والوسطية والاعتدال لِيَحْصُلَ اليقين والاطمئنان والسكينة والاستقرار.

فالنموذج الديني المغربي في ظل الثوابت الثلاثة عقيدة وفقها وتصوفا محروسةً بإمارة المؤمنين التي تضمن الحماية والحصانة لهذا النموذج الديني المعتدل والذي بوّأ  المغرب مكانة جعلته يستقبل ثلة من الطـلبة المنحدرين من الدول الإفريقية إلى جانب طـلبات واردة من دول أوروبية قصد تكوينـهم داخل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات لِتَلَقِّـي المبادئ الدينية وفق منهج معتدل وسطي يحقق السلامة والسلم والأمن والأمان.

الثوابت عامل وحدة بين المغرب والبلدان الإفريقية
إن ثابتَ الإمامة العظمى، يا مولاي، بالغُ الأهمية في باب حراسة منظومة الثوابت، بحكم ما هو منوط بالإمام الأعظم من أمانة حماية الملة والدين، تفعيلا لبنود عقد البيعة الشرعية المبرم بين الأمة وولي أمرها.

ومن ثمار عناية جلالتكم بالبلدان الإفريقية - وهي كثيرة - هذه المؤسسةُ العلمية الإفريقية التي تحمل اسم مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي مقرها بفاس منارِ العلمِ والإيمان، وهي تجمع في بداياتها صفوة من عالمات القارة وعلمائها، لِتَبادُلِ الرأي، والتواصـي بالحق والتواصي بالصبر، والنقاش فيما يهم قارتنا وعلماءَ ديننا وشريعتنا، وما يُمَكِّنـُهم من أن يُسهموا به في تحقيق الأمن المعنوي لقارتهم، ومع بروز عمل هذه المؤسسة إن شاء الله سيرى الجميع الآثار الحميدة لعملكم النبيل من أجل صيانة الثوابت الدينية للمسلمين في إفريقية ومن ثمة إسهامكم في الأمن الروحي والأمن العام لهذه البلدان وأمن العالم وأنتم لا تريدون من ذلك جزاء ولا شكورا وإنما تستجيبون لقول رب العالمين: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾، ونرجو من الله أن نكون من هؤلاء المؤمنين لنشهد أن ما أنجزته إمارة المؤمنين في هذه الفترة الوجيزة إمارةُ محمدٍ السادس خلال بضعَ عَشْرةَ سَنةً عمل عظيم لا يمكن الإحاطة به في كلمة قصيرة.

تقبل الله أعمالكم يا مولاي

والختم من مولانا أمير المؤمنين